كورونا تقلب الموازين و ترسم ملامح المستقبل
كورونا تقلب الموازين و ترسم ملامح المستقبل
رغم صغره و عجزنا عن رؤيته, إلا أنه زعزع العالم بأكمله و أحدث تغييرات كبيرة طالت المجتمعات على مختلف
الأصعدة فكشف المخفي و المهترئ ووضع الجميع على محك الواقع. و رغم إتفاق العالم على ضرورة محاربته إلا
أنهم لم يتفقوا إلى الآن حول أصوله : يبدو الأمر غريبا و مفارقا، لكن المفارقة الأكبر تكمن في أن البعض يناقش
فرضية كونه مؤامرة و خدعة سياسية – إعلامية في الوقت الذي يسجل العالم آلاف الموتى و المصابين في اليوم
الواحد. فتشتت الآراء و الكل يحارب الزمن ليكون المنقذ الأعظم بإكتشاف اللقاح لوباء يشك البعض في وجوده حقا.
فكان الحديث يتأرجح بين كونه حرب إقتصادية- وجودية أعدت في المخابر العلمية مسبقا و كونه إبتلاء لم يسلم من
إستغلال السلط العظمى فحولت وجهته
فيروس كورونا يفضح هشاشة الإقتصاد :
من أبرز ما تميز به فيروس كورونا, أنه ساوى الجميع أغنياء و فقراء على الصعيد الفردي و الجمعي. أي أنه ساوى بين الأشخاص الأغنياء و الفقراء كما
ساوى بين الدول الغنية و الفقيرة بل أن بعض الدول النامية قد قاومته أكثر من الدول المتقدمة, و هنا تكمن أبرز
مفارقات الجائحة و أهم نوادرها. قراءة بسيطة في بعض الأرقام تبين فداحة الكارثة الإقتصادية التي سببها الفيروس.
حتى أن البعض من المختصين ذهبوا حد مقارنتها بالأزمة المالية العالمية لسنة 2008 و حتى الكساد العظيم لعام
1929. عديدة هي القطاعات التي دمرتها الكورونا و أبرزها السياحة و الطيران و النقل و البورصات. إذ “أدى
تدهور الأعمال المتعلقة بالنفط إلى تراجع في الطلب العالمي على النفط بما يوازي 40% من إجمالي الطلب العالمي”
و ذلك متعلق بتعطل مجال النقل و الطيران فقد كشف إتحادالنقل الجوي “إياتا” أن “قطاع الطيران في العالم خسر
252 مليار دولار من عائداته هذا العام بسبب كورونا أي ضعف توقعاته السابقة التي أطلقها بداية إنتشار الفيروس و
التي بلغت 113 مليار دولار ” . و لكن حتى بعيدا عن هذه الأرقام العالمية فإن نظرة صغيرة لمحيطنا البسيط كفيلة
بكشف عمق التأثير الإقتصادي لهذه الجائحة فأصحاب المشاريع الصغيرة كالمقاهي و المحلات و غيرها من مشاريع
الخدمات اليومية و الحياتية قد تأثرت بسبب فترة الحجر الصحي الشامل كما تأثرت بتعثر النسق العادي للحياة. و ما
المظاهرات و الوقفات الإحتجاجية التي تشهد ها تونس مثلا في عدة قطاعات رغم الوضع الذي نعيشه إلا دليلا على
هذا.
كورونا يحرك الوازع الديني و الأخلاقي :
إنتشر فيروس كورونا بنسق بطيء في البداية من جهة لأنه ابتدأ بعيدا
عنا جغرافيا و من جهة أخرى لجهلنا به و بأعراضه في أول الأمر . لكن بعد أن إتستوعبنا الوضع و تسلل المرض
إلينا و بدأت حرب الأرقام بين إصابات و وفيات بدأت حينها التحليلات و التفسيرات و إجتاحت الأدعية مواقع
التواصل الإجتماعي تضرعا للإلاه برفع الوباء و حماية البشرية منه. إذ نلاحظ منذ تلك الفترة إلى اليوم أننا صرنا
نتحدث بصيغة الجمع و لا نفرق بين البشر بمختلف ألوانهم و طوائفهم و دياناتهم… فغلب شعور الإنسانية على بقية
المشاعر وصرنا شعبا واحدا تجمعنا صفة “إنسان”. فقد تعاطفت الشعوب مع بعضها البعض و تكاتفت الدول بمختلف
أصنافها لمكافحة هذا الوباء, فإكتسحت العالم فجأة قيم التضامن و التعاون و التآخي بشكل لم نشهده من قبل إلا في
بعض النوائب و إن لم يكن بهذا الشكل ; و نذكر من ذلك مساعدات المنظمات الدولية بالأدوية و الآلات و المعدات
لمساعدة المستشفيات و الدول التي تعاني من منظومات صحية ضعيفة. كما نذكر تعاون كافة الشعوب مع إيطاليا حين
بلغت أوج الأزمة و إرتفعت فيها الإصابات و الوفيات بشكل مهول .فحتى تونس على تواضع منظومتها الصحية
جادت بما لديها لتقف مع الشعب الإيطالي في أزمته فمن ألطاف هذه الأزمة أن أخرجت المزايا الدفينة في الروح
الإنسانية لكل فرد.
كورونا تقلب الموازين و ترسم ملامح المستقبل
كورونا و نظرية المؤامرة:
إن نظرية المؤامرة متأصلة و متجذرة في ثقافة الكثيرين إذ دائما ما يقع
البحث عن شماعة تعلق عليها المصائب و الكوارث و الأخطاء. فلا الساسة و لا الشعب يتحمل المسؤولية مهما
حصل و التاريخ يشهد دائما تراشق التهم و تقاذف المسؤلية بين مختلف الأطراف. و إذا ما وجد سبب واضح لأي
إشكال أو مصيبة نجد شماعة القدر و العقاب الإلهي من جهة و مخططات الشر و الحروب الصامتة من جهة أخرى.
و هذا تماما ما لوحظ مع تفاقم وباء كورونا في العالم : شق يتحدث عن العقاب الإلاهي نظرا لبعد الناس عن الدين و
انتشار الكبائر و الفواحش و شق يتحدث عن مخطط مسبق لصناعة الفيروس و إنتشاره، و الكل يرمي التهمة لعدوه
في المصالح. و لكن الطرفة هي وجود شق ثالث يعتبر الفيروس كذبة و خدعة سياسية طورها الإعلام وهو ما يكشف
إلى أي مدى نعيش أزمة ثقة تتفاقم يوما بعد يوم و تأصل بذلك نظرية المؤامرة أكثر. فإن كان الفيروس قد أعد في
مخبر علمي و سرب لغاية في نفس يعقوب فإنه إلى حد الآن لم يعد بفائدة على أي طرف كان و حتى أنه كشف هشاشة
النظام العالمي الساري و كشف هنات العولمة و التكنولوجيا. فبمجرد إغلاق الحدود لمدة قصيرة توقف شريان
الإقتصاد و الحياة فلا نفعت الأموال و لا المخابرات و لا قدرة القوة الناعمة و لا الخشنة على مجابهة هذا العدو
الخفي. إن فيروس كورونا كان صفعة للعالم بأكمله صفعة رجت المسلمات و فضحت المستور كشفت تعفن العلاقات
السياسية بين الدول حين أراد الكل دفع التهمة لغيره. كماكشفت وهن الأنظمة الصحية حتى في أعتى الدول و جعلت
الكل يدخل في سباق من أجل إيجاد اللقاح; لقاح ينقذ البشرية من الوباء و ينقذ صاحبه من مخلفات الجائحة ,فالفائز
سيكون بطل المرحلة المقبلة. مما لا جدال فيه أن العالم لن يكون كما كان عليه قبل كورونا فستنقلب موازين القوى و
قواعد اللعبة و ما يحدث الآن ليس إلا تخبط الصدمة و ما يعرف برقصة الديك المذبوح. و القوي من سيخرج أقوى و
من سيستغل الأزمة لتصبح رحمة. لذلك فليس المهم أن ندرك أصل الأمر لكن الأهم أن ندرك كيف علينا التحرك
لضمان المرحلة القادمة؛ مرحلة ما بعد كوفيد 19حيث لن يكون أي شيء كما كان عليه.
بقلم غادة ثابت